الوصية الثالثة
حسين: صدقت، ولكن إذا كانت هذه عقيدة العلويين، وأعترف أنها أعمق من عقيدتنا، فلماذا يقرون بتناسخ الأرواح؟ ولماذا يتهمون بأنهم لا يقيمون الصيام والصلاة والشعائر الدينية؟
أحمد: أما عن التناسخ أيها السيد، فنحن المسلمون العلويون لا نقر بالتناسخ بين المؤمنين بل بالتقمص، والتقمص لا يعني انتقالاً عشوائيا للنفس بين جسد إنسان وإنسان آخر دون ترتيب أو انتظام، لأن هذا مرفوض لدينا. فالتقمص مصدره قمص أي لبس القميص وخلعه- وهو انتقال النفس بعد الموت من جسد مؤمن إلى آخر يولد حديثًا، أو كما يعبر عنه أحد الحكماء بالقول: "الموت هو تغيير للثياب".
حسين: هذا كلام غير علمي ولا منطقي.
أحمد: إن التقمص قانون إلهي لا مجال لنكرانه، ألست ممن يعتبر بالأمثال؟ لقد أقر العلم بالتقمص كما أقر به الحكماء والفلاسفة القدماء، وحتى (الغزالي) اعترف بذلك.
حسين: لم أسمع بذلك من قبل.
أحمد: المسيح (ع) قال في ذلك تعليمًا لنا: "ولدت قبل أن يولد إبراهيم"، والقرآن يؤكد ذلك في قوله تعالى يعني الرسول العربي (ص): (هذا نذير من النذر الأولى) .
حسين: أتعني أن الإنسان بحاجة إلى أكثر من حياة حتى يحقق ذاته الكاملة؟
أحمد: لا أحد منا يستطيع أن يحقق ذاته الكاملة، أو تبلغ نفسه الاطمئنان إلا عندما يصفي نفسه من شوائبها وأخطائها، وهذا كما نعلم لا يكون في حياة واحدة. ألا تدري أن أفلاطون وفيثاغورث تطرقوا إلى هذا الموضوع؟
حسين: لا، لم أقرأ لهم حول هذا الموضوع.
أحمد: كان الفيلسوف فيثاغورث مقرا بالتقمص حيث يـقول: "النفس تمر بعد الموت بفترة الخلق عليها ثم تدخل في جسم جديد". كما أيده أفلاطون حين قال: "إن الموت الآتي من الحياة لابد أن تعقبه حياة أخرى تأتي من الموت"، وذلك لإعطاء النفس ومضات إلهية لإنقاذها.
ناصر: إنهم فلاسفة لا رجال دين.
أحمد: لولا أن فلسفتهم صحيحة لم تبق مقدسة حتى الآن، والدليل على ذلك نظرياتهم الرياضية المقدسة والمبرهنة، حتـى عند العلمـاء العرب، وقد ذكرنا أنه
لا خصومة بين المنطق والدين لأن غاية كل منهم البحث عن معرفة الحق.
ناصر: لكن الجسد يبقى في عالم البرزخ إلى يوم البعث.
أحمد: حسنًا، أليس الجسـد باق في القبر بعد دفنه فيه، لا يخرج منه؟
ناصر: أجل.
أحمد: فهل دخول المؤمن إلى الجنة يكون بجسده؟
ناصر: نعم.
أحمد: هل هو نفس الجسد الذي دفن في القبر؟
ناصر: أجل، هو نفسه.
أحمد: إذًا كيف يتفكك الجسد ويعود إلى التراب؟
ناصر: أقصد جسد آخر ينشأ في القبر عند البعث.
أحمد: إذن، أنت تقول إن النفس انتقلت من الجسد الذي دفن عند الوفاة إلى الجسد الجديد الذي نشأ عند البعث.
ناصر: نعم.
أحمد: ها قد أثبت التقمص عند البعث وقبل دخول الجنة. أوليس ما يكون حقا في الآخرة يكون حقا في الأولى؟
ناصر: بل هو حق.
أحمد: فذلك حق في الدنيا والآخرة.
ناصر: لا يزال في نفسي شيء غامض عن هذه المفاهيم.
أحمد: أليس الله بعادل؟
ناصر: نعم، بالتأكيد.
أحمد: إذًا لماذا يولد البعض مكفوفي النظر أو مشوهين أو معوقين؟ وهل يولد البعض كافرًا أو مؤمنًا؟
حسين: قد يكون عقوبةً لأهلهم لما ارتكبوه من آثام.
أحمد: حاشا لله، وهو القائل: (إن الله لا يظلم الناس شيئًا ولـكن الناس أنفسهم يظلمون) ؟ كيف تزر وازرة وزر أخرى؟ منذ قليل قلت: إن الله عادل. فكيف يعاقب شخص لذنب اقترفه غيره؟
ناصر: كأنك تود أن تقول أنه لذنب اقترفه هو، فمتى كان ذلك؟
أحمد: رأى السيد المسيح (ع) رجلاً أعمى منذ مولده، فسألوه: من أخطأ، هذا الرجل أم أبواه حتى ولد أعمى؟ فأجاب: "لا هذا أخطأ- أي في حياته هذه- ولا والداه، ولكنه ولد أعمى لتظهر فيه أعماله السابقة". تأمل كيف سماها (أعماله)!؟. إذًا يجب أن تكون الخطيئة قد حصلت قبل العمى، ماذا عن طفل ولد صباحًا ومات مساءً فهل يدخل الجنة، أم النار؟
حسين: بل الجنة.
أحمد: ماذا فعل ليدخل الجنة؟ هل بشفاعة من والده والله تعالى يقول: (لا يجزي والد عن ولده) ؟ عندما سئل رسول الله (ص): أهل الجنة يدخلون بالإسـلام أم بالإيـمان أم بأعمالهم؟ أجاب: "استوجبوا الجنة بالإيمان، ويدخلون برحمة الله ويقتسمونها بأعمالهم" . وهذا الولد لا نعرف إن كان مؤمنًا أو كافرًا، لأنه لم يفعل أي شيء ليدل من خلاله على خيره أو شره حتى نستطيع الحكم عليه.
ناصر: كل إنسان مؤمن بالفطرة.
أحمد: بل كل إنسان مسلم بالفطرة، و"إن الإسلام غير الإيمان" كما يقول الإمام الرضا علينا سلامه، "فالإيمان- على حد قول الإمام الباقـر علينا سلامه- إقرار وعمل، والإسـلام إقرار بلا عمل" ، وهذا الطفل لم يعمل بعد، فكيف عرفت حقيقته والله تعالى يقول: (فقل إنما الغيب لله) . هذا تجاوز لحدود القدرات الإنسانية.
حسين: إذن ليس بالضرورة أن يدخل الجنة؟
أحمد: دائمًا تنسبون إلى الله الظلم، والله هو العادل في حكمه. يا حسين، التقمص هو الذي يجيبنا، فالتباين ما بين الأخوين مرده إلى تباين قائم بينهما في عدد تقمصات كل منهما، ومدى اسـتفادة كل منهما من حياته السـابقة، فلا يمكن أن يكون الله ظالمًا لخلقه حتى يميز ما بينهم.
حسين: ربما.
أحمد: بل بالتأكيد، وإلا فما هو ذنب من يولد عند أبوين ملحدين مثلاً... إلخ؟
ما هو ذنب من يولد في بلاد المجاعات أو الكوارث أو الحروب؟ ما ذنبه إن لم يكن مسلمًا والله تعالى يقول: (إن الدين عند الله الإسلام) ؟ ألا يستحق كل شـخص بأن يعرض الحق عليه حتى يتم اختباره؟ أجبني: ما هو ذنب هؤلاء لنحكم عليهم بالكفر فورًا؟
حسين: قضاء وقدر.
أحمد: أيها السيد، يقول تعالى: (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة) ، والبينة تعني الحجة، فلابد أن يعرض دين الحق على كل إنسان ليجازى كل بما يقوله ويفعله.
حسين: معك حق.
أحمد: يقول أمير المؤمنين (م): "يموت من مات منا وليس بميت ويبلى من بلي منا وليس ببال" ، وهذا هو معنى التقمص، أي فناء الجسد وبقاء الروح، لأن الغاية من اتخاذ الجسد لباسًا هو الاختبار والتجربة في طريق التسامي والترقي، وهذا
لا يمكن أن يتحقق في خلال السنوات القصيرة المعدودة للإنسان في الحياة الواحدة، فكيف إذا مات شابا أو طفلاً، وما هي قيمة هذه السنوات مهما كثرت بالنسبة إلى نعيم الآخرة؟
حسين: لقد أقنعتني، ولكن ليطمئن قلبي أعطني دليلاً من كتاب الله أو من كلام رسول الله والأئمة حول التقمص.
أحمد: إذا قرأت وتمعنت جيدًا في كتاب الله ستجد آيات عديدةً تتحدث عن هذا الموضوع، وترمز إليه بشكل مباشر.
ناصر: أعرف أنك تقصد قوله تعالى: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) .
أحمد: هذه إحدى الآيات الدالة على التقمص. فكيف تفسر الموت الأول والموت الثاني؟
ناصر: أما الموت الأول فهو النطفة في الصلب، وقد أحياها الله في الرحم بنفخ الروح فيه.
أحمد: فكيف تفسر الموت الثاني؟ هل هناك موت أثناء الولادة؟ وكيف يجتمع هذا التناقض بين الموت والحياة في آن واحد؟
ناصر: لا، بل الحياة تستمر في الرحم وبعد الولادة إلى الموت.
أحمد: فما معنى الموت الأول إذن؟ أما تقرأ قوله تعالى: (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل) ؟
ناصر: ألم يرد في الآية الأولى أن الحياة تأتي بعد الموت في قوله تعالى: (وكنتم أمواتًا فأحياكم)؟
أحمد: مع أنك لم تفسر لي الموت الأول المذكور في الآية بشكل سليم سـأسألك: إذا كان يوم البعث لم يأت بعد، فكيف جاء الفعل للزمن الماضي (أمتنا- أحييتنا)؟ ألا ينبغي أن يأتي بالزمن الآتي (ستميتنا- ستحيينا)؟ ومتى كان الاعتراف بالذنب؟ وإلى أين الخروج؟
ناصر: الاعتراف بالذنب يوم القيامة.
أحمد: سبحان الله، يخلقهم ويبعث الرسل إليهم، ويحدد الكافر منهم مسبقًا، ولا خروج من هذا الكفر، فأين العدل الإلهي في هذا؟ أما تسمع ما ورد عن أمير المؤمنين (م): "لو كان الوزر في الأصل محتومًا، كان الموزور في القصاص مظلومًا" ؟
ناصر: بلى.
أحمد: التقمص هو الذي يفسر لك كل هذه الحالات التي ذكرت سابقًا.
ناصر: كيف ذلك؟
أحمد: إن الله خلق الأنفس في الأصل في دار غير هذه الدنيا، وجعلها قادرةً على الاختيار والتمييز بين الحق والباطل، وأسبغ نعمته على جميعها، فأطاعه بعضها كل الطاعة، فأبقاها في سرائه ونعمائه، وعصاه بعضها كل العصيان، فأخرجه إلى نار العذاب، وزل بعضهم بالخطأ بالرد عليه، فألبسه هذه الجسوم الكثيفة، وابتلاه حينًا بالشدة وحينًا بالرخاء، وتارةً بالألم وطورًا باللذة.
ناصر: لماذا يبتلي الإنسان فحسب دون سائر المخلوقات؟
أحمد: لأنه وهبه العقل، وأعطاه القدرة على التفكير في الأمور خيرها وشرها.
ناصر: فماذا بعد الحياة؟ وكيف يجازى على عمله؟
أحمد: بعد الوفاة تجزى كل نفس بما قدمت، وتساق حسب أعمالها أثناء ارتباطها بالجسد السابق، فمصير الإنسان مرهون بأعماله السابقة، وبمدى اكتسابه وتقدمه في اختباراته، والكسـالى على حالهم مقصرون متبلدون، ولا يصفى المؤمن حتى
لا يبقى حق من حقوق الله إلا أقامه وعمل به على قدر اسـتطاعته، ولا باب من أبواب الباطل إلا رفضه وتجنبه، وعند قيام الساعة، تكون الجنة هي المأوى للمؤمنين، والنار هي المثوى للكافرين، خالدين فيها أبدًا.
ناصر: إن هذا الكلام منطقي ومقنع، ولكنني أخشى أن أصرح فيه لئلا أفقد مكانتي الدينية.
أحمد: إن المؤمن لا تأخذه في الله لومة لائم، ولكن هناك فرقةً ينطبق عليها قول المفضل بن عمر (ع) في وصيته: "فرقة أحبونا وسمعوا كلامنا ليستأكلوا الناس بنا، فيملأ الله بطونهم نارًا" .
ناصر: لقد طفح الكيل.